كلمة ألقاها صاحب السمو الآغا خان, Doha, Qatar · 24 نوفمبر 2010 · 7 دقائق
بسم الله الرحمن الرحيم
صاحب السمو أمير البلاد
صاحبة السمو، الشيخة موزة بنت ناصر
أصحاب السعادة
الضيوف الكرام
السيدات والسادة الحضور،
السلام عليكم
إنه ليسعدني أن أحي هذا الجمهور الرائع، بما في ذلك الكثير من الأصدقاء القدامى والجدد، الذين ساهموا في تشكيل هذا البرنامج، والذين هم في غاية الأهمية لمستقبله.
ويسرني أن أحيي خصوصاً أصحاب السمو، أمير دولة قطر والشيخة موزة، اللذان شرفانا بحضورهما، ونعبر عن امتناننا للمثل الملهم الذي تقدمانه، حيث تقومان بتعزيز تراث هذا البلد الذي يفتخر به، في حين تتوجهان بجرأة نحو المستقبل.
إنه لمن الصعب بالنسبة لي الاعتقاد بأن هذه الجائزة قد أمضت نحو ثلث قرن من الزمان! وأنه قد تم اشتراك أكثر من 3500 مشروع مرشح، بينما تم توزيع أكثر من مائة جائزة. وأنا اليوم وبمناسبة إكمال الدورة الحادية عشرة، يسعدني أن أتقدم لجميع الفائزين بأحر التهاني.
إن منح الجائزة هذه الليلة هو لتسليط الضوء على هذه المشاريع، وهذا أمر مستحق. ولكن الجوائز نفسها ليست إلا غيض من فيض. إذ أن برنامج توزيع الجوائز يشمل أيضاً مجموعة واسعة من الندوات والمعارض والمحاضرات والمنشورات، وعملية الاختيار لامركزية للغاية. هذا الحفل هو باختصار يمثل تتويجاً لرحلة طويلة من الحوار والعناء.
الكثير منكم يتذكر اهتمامي الشخصي والذي يعود إلى منتصف السبعينيات من القرن الماضي، عندما كانت هذه المناقشة تحتاج إلى جهد أكبر لتجد مكاناً لها. إذ لم يلقى النقاش والجدل حول البيئة العمرانية في العالم الإسلامي الاهتمام المناسب وكان يفضي إلى اقتراحات هزيلة. أما استمرارية العمارة الإسلامية فكانت للأسف تتراجع وتضعف، بسبب تأثير اليد القوية للاستعمار، من خلال الحداثة والعولمة، وبسبب عدم وجود تدريب على العمارة ذات الطابع الإسلامي، وأيضاً من خلال تطوير مواد بناء جديدة في العالم الصناعي، فكانت النتيجة، ندرة في عدد المهندسين المعماريين، المحليين والأجانب الذين يعملون على وضع أسس وأساليب العمارة الإسلامية.
هذا الوضع كان مثيراً للقلق، خصوصاً بالنظر إلى التاريخ القوي للعمارة الإسلامية، وبالنظر أيضاً إلى النضال الذي يواجهه الكثير من المسلمين في التعبير بفخر عن هوياتهم الثقافية، في سياقات غالباً ما تكون ضعيفة التأثير. تاريخياً، اتخذت الفنون بما في ذلك العمارة، الإلهام الرئيسي لها من العقيدة الدينية، ولكن عندما يتم فصل الفن عن جذوره الدينية، فإنه يمكن لتأثيرات أخرى أن تهيمن، بما في ذلك التكنولوجيا الخاوية من أي روح، والعلمنة الفارغة.
في ذلك الوقت اعتدت على إعطاء مصطلح "فراغ" لوصف المشهد المعماري الإسلامي. وكان الهدف المبدئي لبرنامج الجائزة، هو أن يحل مكان هذا الفراغ، مع تفعيل للنقاش.
لقد كانت المشكلة في كيفية معالجة هذا الفراغ، وعلى يد من، وبناء على أية أسس؟!.
لوحظ أننا لم نسعى في ذلك الوقت، أو في الوقت الحالي، لتفضيل بعض الأنماط الجمالية، أو أن ندفع باتجاه أسلوب جمالي محدد، كما سماها أحد الزملاء: "إعلان عن نوايا معمارية". ما كان يهمنا حقاً هو أن نقوم بالإجابة على الأسئلة المتعلقة التي كان تثار، وإشراك عدد كبير من المكونات في النقاش.
بعد مرور ثلاثة عقود، يمكننا القول بأننا قد حققنا تقدماً كبيراً، بتحفيز من هذه الجائزة وغيرها من المساعي ذات الأهداف المماثلة.
لقد قطعنا شوطاً طويلاً بعيداً عن قناعتنا وثقتنا المفرطة في وقت سابق بأن العالم البيئي المبني يمكن أن يرعى نفسه بطريقة ما. ونحن ندرك بشكل متزايد أن نوعية مبانينا يمكن أن تحول نوعية حياتنا الروحية والمادية على حد سواء.
وما علينا إلا أن ننظر حولنا هذه الليلة، لنرى هذا الأمر بكل وضوح، كيف تغيرت الأمور، فهاهو متحف الفن الإسلامي بحد ذاته يمثل واحداً من الإنجازات البارزة في مجال العمارة العالمية في السنوات الأخيرة، فهو يرمز إلى الموهبة العالمية المعاصرة على أعلى مستوى، وكيف يمكن أن تتضافر في جهودها بشكل خلاق مع الإرث الثقافي القديم، والقيادة الوطنية الحكيمة ذات الرؤية.
هذا المتحف يمثل التزاما كنا قد رأيناه في أماكن أخرى في الدوحة – من تطوير متحف قطر الوطني- وهو واحد من الحاصلين الأوائل على الجائزة في عام 1980، إلى إعادة بناء سوق واقف – أحد المشاريع التسعة عشرة التي وصلت إلى المرحلة النهائية للجائزة هذا العام، إلى إنشاء المدينة التعليمية المدهشة. والتقدم الذي نراه في قطر الآن يتكرر في جزء كبير من العالم الإسلامي.
إلى أي مدى ساهمت جائزة الآغا خان للعمارة في دعم هذه الجهود، هذا أمر نترك الحكم فيه للآخرين، ولكنني أعتقد بأن الذين تلقوا جائزتنا على مر السنين قد قدموا أمثلة ملهمة من التميز المعماري.
ولكن ماذا بعد؟ ونحن ننظر إلى المستقبل، اسمحوا لي أن أذكر أربعة مجالات رئيسية مثيرة للاهتمام، وهي: البيئة الإسلامية لعملنا، مدى علاقته بالجمهور الذي يستخدمه، والتحول في المشهد الاجتماعي والاقتصادي، وتأثير التكنولوجيات الجديدة والمعاصرة.
اهتمامي الأول يدور حول السياق الثقافي لعملنا، لماذا يجب علينا التشديد على نهج العمارة الإسلامية؟
وفي الإجابة على هذا السؤال، وضحت لجنة التحكيم العليا لدينا كيف أن القوى العالمية تهدد الآن قيم "التراث، الذاكرة والانتماء"، وكيف أن البيئة المبنية يمكن أن تساعد على مواجهة هذا التحدي. هذا هو السبب في إجراء الاحتفالية كل ثلاث سنوات، إنها تساعد على وضع أسس تستحضر التقاليد الإسلامية. ولذلك فإن معظم أفراد هيئة التحكيم بالتالي قد شددوا، من بين عدة معايير أخرى، على أهمية ترميم وإعادة استخدام المباني التاريخية. الرموز الكبرى للماضي يجب ألا يسمح لها بالاختفاء من دون أن يكون هناك فرصة لها للعودة إلى الحياة، لتخدمنا في المستقبل.
في الوقت نفسه، وبالنظر إلى أماكن كنا قد التقينا فيها، وبالنظر إلى مشاريع قمنا بتكريمها، فإننا نلاحظ تنوعاً مدهشاً. التنوع هو جزء من جوهر الإسلام، وإن وحدة الأمة لا تعني التطابق في كل شيء، العمل في سياق إسلامي لا يعني بالضرورة الوقوف عند قوالب مفروضة ومحددة.
كذلك فإن احترام الماضي لا يعني أن نقلد الماضي، والواقع أنه إذا تمسكنا بقوة بالماضي فإننا قد نخاطر بتدمير هذا الإرث. إن أفضل طريقة للاحتفاء بالماضي، هي فهم المستقبل فهماً تاماً.
وخلاصة القول أن برنامج العمارة الإسلامية يعني التزاماً مزدوجاً بين احترام تقاليد الماضي وبين ظروف المستقبل.
المجال الثاني لاهتمامنا ينطوي على تعريف الجمهور، مما يدفعنا للسؤال مع من يجب علينا أن نتواصل.
والإجابة تزداد تعقيداً باستمرار، فالمجتمع المعماري يزداد توسعاً، إلى نحو يتجاوز نواة الإبداع للمهندسين المعماريين. كما تزداد قائمة اللاعبين طولاً لتضم لاعبين جدد: كالمخططين، المهندسين، الممولين، الباحثين، المربين، علماء الكمبيوتر، وعلماء الاجتماع، والقادة السياسيين والمدنيين، والزبائن، والاستشاريين.
المزيد من اللاعبين يعني المزيد من المتغيرات المثيرة للاهتمام - ليس فقط التصميم المبدع، بل أيضاً توجيهات الزبون، والقدرة أيضاً على التكيف مع أنواع المباني والمواد، وأيضاً النفقات المسموح بها، المناخ المحلي، والمناطق الريفية مقابل الحضرية - وبالطبع السياق الثقافي المباشر. يجب علينا أن ندرك على سبيل المثال بأن المجتمعات الإسلامية تختلط أكثر فأكثر مع الناس من خلفيات أخرى.
عندما أفكر بتنوع اللاعبين في المجتمع المعماري، أتذكر الزبون العجول الذي كتب للمعماري الخاص به قائلاً: "أنتظر وصول المخططات، إذا أعجبتني سوف أرسل لكم الشيك"، فرد عليه المعماري الحكيم قائلاً بالطبع: "أنتظر الشيك، إذا أعجبني، سوف نرسل لكم بالمخططات".
الواقع إنه لمزيج رائع من الصبر ونفاذ الصبر لتحقيق النجاح المعماري، في النهاية إن التقدم الملموس يحتاج إلى التفاعل الفعال لجميع الفئات المكونة، ويتضاءل نجاح أي منهم في حال قل الاهتمام أو قلت الكفاءة. والواقع، كلما حددنا جمهورنا بشكل أكثر تضمناً، كلما كان بوسعنا المساعدة على رفع مستوى الوعي المعماري عبر مجموعة أوسع من المعنيين.
المجال الثالث المثير للاهتمام المتزايد لدينا، هو مشهد التحول الاجتماعي والاقتصادي، الناس يعيشون لفترات أطول، السكان في المناطق الريفية يتحولون إلى المدينة، الاقتصاديات تتنوع، مسببةً المزيد من التعقيد والطلب على البيئة المبنية. هذا الأمر تسبب بتطور المجتمع وأصبح أكثر قوة مما جعل هيئة التحكيم لدينا تنشغل كثيراً بدراسة هذه التغيرات. الحقيقة أن مجمعاً صناعياً، وللمرة الأولى، كان من بين المشاريع الفائزة بجائزتنا الليلة، وهذا أمر يدل على تزايد اهتمامنا أكثر فأكثر بهذا المجال.
إن طبيعة جائزتنا هي للمساعدة على تشكيل أفضل الممارسات لبيئات مبنية من المسلمين وجيرانهم، تفويضنا لذلك يجب أن يتضمن مجالاً أوسع للأسس المعمارية، ليس فقط الجوامع والمتاحف والمعالم التاريخية، ولكن أيضاً المدارس والمستشفيات، والفضاءات الصناعية والأسواق العامة، والحدائق، والشوارع، وبطبيعة الحال مجموعة متنوعة من الأبنية السكنية.
وبالمثل، يجب أن يكون تركيزنا الجغرافي أكثر شمولاً، فعلى مر القرون، تم تشييد معظم أبنيتنا الهامة في المناطق الحضرية والعواصم، لكن النمو السكاني الحالي قد تركز مؤخراً على ما يمكن تسميته بالمدن الثانوية، والتي غالباً ما يتم إهمالها ولم تلقى نفس الحيز من الاهتمام العالمي، وهي في حاجة للتخطيط الذكي.
والأمر نفسه ينطبق على المناطق الريفية، إذ تركت هذه المناطق لعملية بناء ذاتية وعشوائية، ولم تحصل سوى على اهتمام محدود من أفضل الممارسات والخبرات. ولهذا السبب يمكن لجائزة الآغا خان للعمارة أن تساعد بهذا التوجه لتجعلنا نتكيف مع المتطلبات الاجتماعية.
رابعاً وأخيراً، دعوني أشير إلى التأثير الثوري للتكنولوجيا الحديثة، الواضح أن صيانة المباني وتصميمها يتطلب هذه الأيام قدراً كبيراً من التطور التكنولوجي، كما أننا نصادف تدفقاً مستمراً من المواد والتقنيات والمتطلبات الجديدة.
ومن بين أمور أخرى، يمكن أن تساعدنا التكنولوجيا الحديثة على تحديد الحالات البيئية العاجلة والطارئة. وأعتقد على سبيل المثال أنه من الحاجات الملحة الحفاظ على الطاقة والمياه، والمخاطر المرتبطة بتغير المناخ، والتقلبات الشديدة للطقس، وعدم الاستقرار الجيولوجي. يمكن للتكنولوجيات الجديدة أن تساعدنا على مواجهة التحديات البيئية المحيرة.
إذاً، هذه هي المجالات الأربع الرئيسية التي تشغل اهتمامنا، وأود أن أقدمها لمزيد من المناقشة. ماذا يعني التميز المعماري في سياق التقاليد الإسلامية وتطلعاتها؟
كيف يمكن لنا أن نصل إلى جمهور أكبر وأكثر تنوعاً؟
هل يمكننا أن نوسع نطاق الصلة بين حياتنا الاجتماعية والاقتصادية؟
كيف يمكننا توظيف أفضل التقنيات المبتكرة؟
هذه الاهتمامات بطبيعة الحال سوف تؤدي إلى مزيد من الأسئلة، كيف وأين يمكننا أن نعلم المزيد حول العمارة؟
كيف يمكننا التوقع بين الحين والآخر أن نساعد على توجيه عملية التغيير؟
كيف يمكننا مكافأة، وأن نتعلم من هؤلاء الذين هم الأكثر نجاحاً؟
كيف يمكننا أن نتشارك الدروس مع الآخرين من خارج الأمة؟
في معالجة جميع هذه القضايا، في الواقع اعتقد أنه بإمكاننا جعل حديثنا المستمر أكثر أهمية وأكثر إنتاجية. لنتذكر دائماً الأمر القرآني، أنه على البشر دائماً أن يتحملوا مسؤولية العناية وتشكيل وإعادة تشكيل بيئتنا الأرضية، وتوظيف ما سخره الله لنا من الوقت والموهبة، كوكلاء صالحين لخلقه.
شكري مرة أخرى لكم جميعاً.