شكّلت الهجرة الموسمية إلى المراعي الجبلية جزءًا من نمط الحياة في قيرغيزستان على مدى قرون. ففي كل صيف، تنتقل عائلات الرعاة مع مواشيهم إلى الجبال، حيث تنصب الخيام التقليدية (اليورت) وتعيش كما كان يعيش أسلافها.

واليوم، يحظى هذا النمط من الحياة باهتمام متجدد، في ظل سعي قيرغيزستان إلى تحقيق توازن بين نمو السياحة من جهة، والحفاظ على الثقافة ورعاية البيئة من جهة أخرى. ويعيد المسافرون المحليون الارتباط بتراثهم، في حين يستكشف الزوّار الدوليون المناظر الطبيعية الجبلية والتقاليد البدوية. وقد أوجد هذا الاهتمام المتزايد فرصًا لبيوت الضيافة الصغيرة، ومخيمات اليورت، والنُزل الجبلية.

في جمهورية قيرغيزستان، تسهم مبادرة "تسريع الازدهار (Accelerate Prosperity – AP)" التابعة لشبكة الآغا خان للتنمية (AKDN)، في دعم روّاد الأعمال لاغتنام الفرص المتاحة من خلال التدريب، والإرشاد، وتوفير التمويل، وإتاحة الوصول إلى الأسواق.

تكييف الضيافة في قمم الجبال

بدأ عبد الرسول أكماتوف، وهو رائد أعمال مدعوم من مبادرة "تسريع الازدهار"، في عام 2019 ببناء فندق على شكل قُبّة مستوحاة من خيمة "اليورت"، قرب ممر تالدِك على طريق بامير السريع، على ارتفاع 3,450 مترًا فوق سطح البحر. وما بدأ كرؤية عائلية سرعان ما تحوّل إلى مشروع تجاري يضم ست غرف وأربعة عشر سريرًا، تُقدَّم وجباته من إنتاج المزارعين المحليين، ويوفّر فرص عمل لأهالي القرى المجاورة.

جاء افتتاح المشروع قبل فترة وجيزة من تفشّي جائحة كوفيد-19، التي أدّت إلى إغلاق الحدود وتعليق السياحة لما يقارب ثلاث سنوات. ومع إطلاق رحلات جوية مباشرة جديدة، من بينها خط إسطنبول ــ أوش، بدأ عدد الزوّار بالتعافي تدريجيًا.

ويفرض تشغيل فندق على هذا الارتفاع تحديات تتطلّب حلولًا مبتكرة. فمع غياب خطوط الكهرباء، قامت العائلة بتركيب منظومة للطاقة الشمسية لتوفير الكهرباء والمياه الساخنة، كما جرى عزل القبة لمقاومة الشتاء القاسي. ويضمن نظام معالجة مياه الصرف حماية الينابيع الجبلية، في حين تتعاون الأسرة مع العائلات الرعوية المجاورة لجمع النفايات وإزالتها. ويقول عبد الرسول: "حتى في أعالي الجبال، تظهر الزجاجات والأكياس البلاستيكية".

ومن خلال التدريب الذي تلقّاه ضمن مبادرة "تسريع الازدهار"، تعلّم عبد الرسول أساليب جديدة للحفاظ على القدرة التنافسية. ويضيف: "أدركنا أننا من دون التكيّف سنتخلّف عن الركب. لقد ساعدنا التدريب على التفكير بطريقة مختلفة، خاصة الآن مع ازدياد الاهتمام بالسياحة الجبلية". وتعمل العائلة حاليًا على بناء قبة ثانية، ضمن خطط لتوسيع الخدمات وجذب الزوّار إلى ما بعد موسم الصيف القصير.

دمج الثقافة بالراحة العصرية

في جبال ألاي، رأى رائد الأعمال إسلامبك إبراهيموف إمكانات غير مستغلة في مجال السياحة الجبلية. وعندما بقي فندقه في مدينة أوش خاليًا خلال فترة الجائحة، حوّل تركيزه إلى إنشاء منتجع جبلي.

من خلال برنامج المسرّعة التابع لمبادرة "تسريع الازدهار"، حصل إسلامبك على تدريب عملي في مجالات التخطيط، والتسويق، والعرض أمام المستثمرين. ويقول: "كانت مبادرة تسريع الازدهار أول من آمن بفكرتنا". وقد تلقّى مشروعه في البداية قرضًا ميسّرًا، ثم حصل لاحقًا على دعم استثماري.

ونما المنتجع ليصبح من أبرز الوجهات السياحية في جنوب قرغيزستان، إذ يجمع بين مخيم صيفي لخيام اليورت يستقبل الزوّار نهارًا أو للإقامة الليلية، وأكواخ عصرية صُمّمت لتوفير إقامة مريحة على مدار العام. ويمكن للضيوف الاستمتاع بالمأكولات القرغيزية التقليدية، والمشاركة في ورش الحرف اليدوية، وركوب الخيل عبر المراعي، أو زيارة مجمّع حمامات مستوحًى من الممارسات البدوية.

ويسهم المشروع في توفير فرص عمل مباشرة للسكان المحليين، كما يدرّ دخلًا غير مباشر من خلال شراء الغذاء والخدمات والخيول من العائلات المجاورة. وبالنسبة إلى إسلامبك، فإن هذه المبادرة تتجاوز مفهوم الضيافة التقليدية؛ فهي تُظهر كيف يمكن لريادة الأعمال، عند توفر الدعم المناسب، أن تستجيب لاحتياجات غير مرئية، وتُسهم في تمكين المجتمعات، والاحتفاء بالإرث الثقافي لقرغيزستان في مناطقها الجبلية.

مركز للمسافرين في الجبال

في مدينة أوش، استلهم تيميرلان ماماسالييف فكرته بعد زيارته لمعسكر قاعدة قمة لينين عام 2021، حيث لاحظ احتياجات المسافرين في المناطق الجبلية. ومن هنا، طوّر نزل "صنّي هوستل" ليصبح أكثر من مجرد مكان للإقامة، محوّلاً إياه إلى مركز للمتنزهين يقدّم نصائح حول المسارات الجبلية ومعدات للتأجير.

من خلال دعم مبادرة "تسريع الازدهار (AP)"، حصل على تمويل قدره 10,000 دولار لشراء خيام احترافية، وأكياس نوم، ومواقد، ما مكّنه من الانتقال من خدمات مرتجلة إلى خدمات منظَّمة. وقد بدأ نُزل "صنّي هوستل" بالتعاون مع منظّمي رحلات مثل "أوش تريبس" و"زيارة ألاي"، كما يشارك الشباب في أنشطته؛ إذ يتطوّع الطلاب كأدلاء سياحيين داخل المدينة، لممارسة اللغة الإنجليزية قبل الالتحاق بفرص عمل في قطاع السياحة.

ويقول: "الاستدامة ليست مجرد كلمة بالنسبة لنا؛ فنحن نريد الحفاظ على الطبيعة، وتجنّب التجارب المصطنعة، والتركيز على الثقافة الأصيلة".

روّاد الأعمال المحليون، أثرٌ مستدام

سلك روّاد أعمال آخرون مسارات مشابهة. فقد ساعد دعم مبادرة "تسريع الازدهار (AP)" ميرغُل كارا كوزويفا في تخطيط مشروعها، وتحديد الأسعار، وإنشاء مخيم لخيام اليورت في جبال ألاي. وفي عام 2019، حصلت على خيمتي يورت ولوح طاقة شمسية، ما زالت تمثّل الركائز الأساسية للمخيم. ولم تتم إضافة الكهرباء إلا مؤخرًا، فيما يُعد توفير المياه الأولوية التالية.

وسّعت ميرغُل أعمالها لاحقًا بافتتاح فندق "آرت" في مدينة أوش، وفي عام 2023 حصلت على دعم تقني عيني (غسالة، غسالة صحون مدمجة، ومولّد بخار)، بعد مشاركتها في برنامج الحضانة "وومن كاب (Women CUP)" لريادة الأعمال النسائية.

أما باكتيبِك نوريدينوف وأصدقاؤه، فقد بدأوا بتنظيم جولات غير رسمية في مدينة أوش، معرّفين الأصدقاء والزوار على المناظر الطبيعية والثقافة القرغيزية. ومع تزايد الطلب، انضموا إلى برنامج المسرّعات التابع لـ "مبادرة تشريع الازدهار (AP)"، حيث تلقّوا التدريب، والإرشاد، والتمويل. وقد ساعدهم هذا الدعم على الانتقال من "السياحة الهواة" إلى "السياحة الاحترافية"، وتوسيع نطاق الجولات، وتوظيف مزيد من المرشدين، وتحسين جودة الخدمات، مما جعل مشروعهم Around.kg قوة صاعدة في مجال السياحة المجتمعية في المنطقة.

من القباب المرتفعة والأكواخ الجبلية إلى مخيمات اليورت، والنُزل، والجولات المحلية، يساهم هؤلاء الروّاد وغيرهم ــ بدعم من شبكة الآغا خان للتنمية (AKDN) ــ في إعادة تشكيل ملامح جبال قرغيزستان. فمشاريعهم لا تقتصر على خلق فرص عمل فحسب، بل تسهم أيضًا في الحفاظ على التراث الثقافي، وتوفير فرص دائمة للمجتمعات في بعضٍ من أكثر مناطق البلاد بُعدًا.