كلمة ألقاها السيد القاضي ألبي ساكس, أوتاوا، كندا · 19 مايو 2016 · 19 دقائق
إذا قمتم بإجراء اختبار أبوة لدستور جنوب إفريقيا، فأي حمضٍ نووي تعتقدون أنكم ستكتشفون؟ رغم الكلمات التي ألقاها المتحدثون، إلا أن ذاك الحمض لن يمت بصلة إلى ألبي ساكس، ولا إلى نيلسون مانديلا، ولا حتى إلى فريديريك ويليم دي كليرك، وبالطبع ليس إلى أوليفر تامبو.
رأيي هذا يعود إلى عام 1988، حينها كنت لا أزال أمتلك ذراعين. كنا نجتمع في غرفة صغيرة، تعادل نوعاً ما حجم هذه المنصة، في لوساكا (عاصمة زامبيا). وكانت مجموعة من قوات الأمن الزامبية منتشرة حولها لتأمين خروجنا في حال حدوث أي غارة لقوات الكوماندوز من جنوب إفريقيا. ناقشنا في ذلك الوقت، ولأول مرة، أثناء ندوة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، المبادئ التوجيهية الدستورية لجنوب إفريقيا الجديدة. كنت أشعر أثناء توجهي نحو المنصة وقتها بأن قلبي يخفق بسرعة. كان بعض المندوبين المتواجدين يقدمون دعماً سريّاً، وبعضهم الآخر يقدمون دعماً عسكرياً، في حين كان آخرون يقدمون الدعم السياسي، كنّا بانتظار العودة إلى جنوب إفريقيا، لقد كان ثمة مجموعة من الدبلوماسيين بين هؤلاء المندوبين، إضافةً إلى بعض الصحفيين، وكنت أشعر بالقلق آنذاك. كانت مهمتي، التي كلفني بها أوليفر تامبو، تتمثل في تقديم معلومات وشرح للمندوبين هناك تتعلق بتنظيمنا، ليعرف العالم عبرهم في نهاية المطاف: لماذا تحتاج جنوب إفريقيا إلى شرعة حقوق.
كان ثمة شك كبير بين غالبية سكان جنوب إفريقيا حول شرعة الحقوق، فبعضهم كان يطلق عليها تسمية "شرعة البيض". كان خوفهم يكمن في أننا سنحصل على الديمقراطية، وعلى التصويت أيضاً، ولكن "شرعة الحقوق" تلك ستجمّد الوضع الراهن وستقوم بمنح كامل السلطة للقضاة، وبالتالي لن نكون قادرين على المضي قدماً. يُطلب مني اليوم تقديم أسباب حاجتنا في ذلك الوقت إلى شرعة حقوق. في الحقيقة يمكنني أن أعدد ثلاثة دوافع: الأول يمكن تفهّمه بسهولة، فهو يجعلنا نبدو طيبين، في وقتٍ اتُّهمنا فيه بالإرهاب! كان السؤال وقتها: ماذا يمكن أن يحدث؟ حسناً، أنتم ترون (يقصد مندوبي الدول الذين كان يشرح لهم حاجة جنوب إفريقيا لشرعة الحقوق)، ما يحدث في أمكنة أخرى في إفريقيا؟ إذا سيطر السود، فإنهم سوف ينتزعون كل شيء ويهتمون بأنفسهم. حينها لن يكون أي مستقبلٍ للبيض في هذا البلد! لقد تفهّم المندوبون ذلك الدافع بسهولة وكنّا نسعى جاهدين لوضعهم في جو إيجابي، وأن نحظى بالتالي باحترام كبير في جميع أنحاء العالم. لقد تبنّى حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، وعلى مدى عامي 1986 - 1987، شرعة الحقوق كجزء من سياسته، في حين تبنّى عام 1985 ديمقراطية متعددة الأحزاب. على أيّة حال لم تكن هذه القضية التي جعلت نبضات قلبي تتزايد.
السبب أو الدافع الثاني لحاجة جنوب إفريقيا لامتلاك شرعة الحقوق كان سبباً جوهرياً وأكثر تعقيداً من الأول، فالأمر هنا لم يكن مجرد مناورة تكتيكية، وهنا يتمثّل رد أوليفر تامبو على المفهوم الذي قُدِّم لنا حول تقاسم السلطة، وهو المفهوم المعروف بـ"حقوق المجموعة"، وإنني أعتقد أن عرض هذا السبب في مؤتمرنا اليوم يشكل أهمية خاصة. من الأهمية بمكان معرفة كيف يمكن إساءة استخدام مفهوم التعددية، فخلال النقاشات التي تناولت موضوع التعددية، كانوا (يشير للجهات التي قدّمت لهم مفهوم تقاسم السلطة) يستخدمون "لغة التعددية"، لكنهم كانوا في نفس الوقت يدّعون أننا أقلية تستخدم "لغة التعددية" بهدف حماية الأقليات، التي - في واقع الأمر - تستهدف صراحةً حماية الحقيقة المتمثلة بأن البيض يمتلكون 87% من الأراضي بموجب القانون، و95% من رأس المال المنتج! بكلمات أخرى: في جنوب إفريقيا، كانت الأقلية تشكّل الأغلبية والأغلبية تشكّل الأقلية، لذا فإن هذا النوع من الخطاب الذي يؤيد حماية حقوق الأقليات يُساء استخدامه حالياً (يقصد وقت مناقشة شرعة الحقوق) للحفاظ على امتيازات الأقلية. كانت إجابته (يشير إلى أوليفر تامبو) "إننا لا نريد تقاسم السلطة بين الجماعات العرقية والإثنية في جنوب إفريقيا، ولا نريد تقاسم السلطة بين البيض والسود، بل إننا نريد مجتمعاً يضم كافة المواطنين، ويحمي الحقوق بموجب شرعة الحقوق، وليس باعتبارك أبيض أو أسود أو عضو في المجموعة التي تشكّل أغلبية أو أقلية، بل لأنك إنسان".
كانت تلك رؤيته العميقة ونهجه (يشير مرة أخرى إلى تامبو)، الذي يتمثل في عدم إضفاء الطابع المؤسسي على العرق أو الإثنية في تركيبة الحكومات بالطريقة التي تم بها إحراز تقدم. يتم الاعتراف بالتعددية عبر التعددية السياسية، وليس عبر إعطاء أشكال من الحكم الذاتي، وحقوق المجموعة، مؤسسية، دستورية حول العرق، الإثنية، اللغة، ولون البشرة، وما إلى ذلك. كانت تلك إجابة إستراتيجية، لقد رأيت كيف كان الجنود والعاملين تحت الأرض، إضافةً إلى كل من كان موجوداً حينها، كيف كانوا يومئون برؤوسهم تعبيراً عن سعادتهم الكبيرة في قيام حزب المؤتمر الوطني الإفريقي بمناقشة نقاط الدستور وليس فقط إستراتيجية الإطاحة بنظام الفصل العنصري، يعبرون عن سعادتهم ليس بفوز الأصدقاء، ولكن بنوع البلد الذي سنعيش فيه.
لكن أيضاً لم يكن هذا سبب خفقان قلبي بسرعة، لقد كان قلبي يخفق بسرعة نتيجةً للسبب الثالث. قلت إننا بحاجة إلى وثيقة الحقوق لتحمينا جميعاً، وقد كنت خائفاً، كيف سيكون رد فعلهم؟ ربما يقولون كان الأمر سهلاً بالنسبة إلى ألبي ساكس، فهو محام هادئ وينتمي إلى الطبقة الوسطى. إننا نكافح، لأنهم يمارسون علينا العنف يومياً، لذا لا تستخدم معنا لغتك وأفكارك الجميلة كمحامي! لكني وبدلاً من تلقي أي شكل من أشكال التنصل من أفكاري أو رفضها، وجدت مظاهر الفرح! كان الناس يعرفون أنهم في الدول الإفريقية التي يعيشون فيها كانوا يقاتلون بنبلٍ وشجاعة من أجل نيل حريتهم، لكن قادتهم تحولوا مع الوقت إلى حكام مستبدين، كان الناس يعرفون ذلك عملياً. فهل سيحدث هذا معنا؟ لقد شاهد الناس داخل تنظيمنا أشكالاً غير مقبولة تماماً من السلوك وسوء المعاملة، فهل سيحدث هذا معنا عندما نكون في السلطة؟ ثمة دائماً فرضيةٌ أننا سنستلم السلطة، فمظاهر البهجة والسعادة ظهرت جلياً، وكنا على استعداد لإظهار ذلك والاعتراف بنقاط ضعفنا. لذلك كنا مدركين للغاية أهمية صياغة الدستور، فوضع الدستور لا يتعلق فقط بحكومتكم الأولى، أو بأنفسكم، أو بالأشخاص المفضّلين في مؤسستكم، بل بوضع دستور للمستقبل.
وبعد أن أجرينا العديد من المحادثات تلو المحادثات، وتناولنا خلالها كافة النقاط، تمكنّا أخيراً من إجراء محادثات ومفاوضات حقيقية، وقد استغرق الأمر عامين. لقد خضنا معارك شرسة في جنوب إفريقيا حتى تمكّنا من تحقيق الأسطورة المتمثلة في الحصول على دستور لجنوب إفريقيا. قيل لنا إن مانديلا الرائع والمذهل قد خرج من السجن، بعد أن قضى 27 عاماً فيه، ورغم معاناته الشديدة، إلا أنه قام بلقاء فريدريك ويليام دي كليرك، الذي يتسم بالحكمة والواقعية، وتمكنا من الوصول إلى اتفاق، ثم قاما بإرسال ما توصلا إليه للمحامين ليكون بمثابة مسودة للدستور.
هكذا جرت الأحداث. [يغني] لم تكن بالضرورة دقيقة تماماً كذلك. استغرقنا الأمر ست سنوات واجهنا خلالها العديد من المشاكل، ولكننا قمنا بعمل جماعي. اغتيل كريس هاني، وكدنا على وشك القيام بثورة. كان ثمة حرب أهلية تجري ولكن بوتيرة منخفضة، تم خلالها إلقاء الناس على سكك القطارات. كان الكفاح الأساسي عبارة عن صدام بين رؤيتين مختلفتين تمام الاختلاف: تركيبة الحكومة الجديدة، وما هي العملية التي ستؤدي إلى الحصول على الدستور الجديد.
كنا نشير إلى حكومة جنوب إفريقيا آنذاك بـ"العدو"، ثم أصبح العدو، في الوقت الذي أحرزنا فيه بعض التقدم "النظام"، وعندما حققنا تقدماً، أصبحت "الحكومة دموية"، وانتهى الأمر لصالح "الطرف الآخر". في النهاية، كنا نقول، "حسناً، ماذا سيقول الطرف الآخر؟" الآن (يقصد وقتها)، تشكّل الآراء الأساسية في مكان ما نقطة الخلاف الكبير بين مرحلتي "النظام" و"الحكومة الدموية". يقول نظام جنوب إفريقيا: "يجب علينا صياغة الدستور الآن، الدستور الذي سيتضمن تقاسم السلطة". "في البداية كان تقاسم السلطة بين الأجناس (الأعراق)، ثم أُسقط ذلك بشكل علني لينتقل تقاسم السلطة بين الأحزاب الثلاثة الرائدة، وتلك الأحزاب هي حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، الحزب الوطني بقيادة دي كليرك، وحزب كاوا زولو إنكاتا للحرية بقيادة مانغوسوثو بثليزي. وقالوا (النظام): "يجب أن يكون لدينا ثلاثة رؤساء يمثلون الأحزاب الثلاثة، ويجب أن يحكموا بالإجماع، إضافةً إلى ضرورة وجود مجلس منتخب يتم انتخابه عبر الاقتراع العام وسيكون مجلس الأعيان بمثابة مجلس أحزاب الأقليات لأن الجميع يعلم أن الديمقراطيين يحمون حقوق الأقليات". [أطلقنا عليه تسمية مجلس الخاسرين!]، حيث سيقوم مجلس الأعيان بمنح أحزاب الأقليات استخدام حق النقض (الفيتو) فيما يتعلق بالمسائل التي تشكّل أهمية كبيرةً وخاصة لهم.
لقد كانت هذه الصيغة شكلاً مقنعاً لتقاسم السلطة على أساس عرقي، الأمر الذي من شأنه أن يضمن وبفعالية تحويل الدستور بدلاً من أن يكون الوسيط للقيام بالتحول والتغيير وفتح الأبواب والوصول إلى الجميع، إلى أن يكون عائقاً أمام التغيّر، وبهذا أصبح الدستور بمثابة عدو، وكانت غالبية الناس يكرهونه لأنه يمنعنا من المضي قدماً رغم أنه منحنا فرصة التصويت. كان علينا أن نشن هجوماً لإحباط ذلك المخطط من أصله، رغم أني لا أحب المشاهد العسكرية.
إضافة إلى ذلك، قالوا (يقصد النظام) إنه "يجب علينا صياغة الدستور هناك (مشيراً للبرلمان) ولاحقاً"، لكننا أجبنا بـ "لا"، إلا في حال كان لشعب جنوب إفريقيا بأجمعه ممثلين مفوّضين، عبر جمعيةٍ تأسيسيةٍ يمكن أن تمثل أول برلمان لنا، حينها تقوم بوضع مسودة للوثيقة (أي الدستور)، التي سيكون لها وحدها معنى بالنسبة للشعب وستتمتع بالشرعية". لم يتم استشارة شعبنا أو مشاركته في تقرير مصيره ومستقبله. والآن، سيقوم مجموعة من المفاوضين المعينين ذاتياً بأخذ القرار بدلاً عنهم. قلنا: "إننا نريد صياغة الدستور على مرحلتين، ويمكننا أن نتفق مسبقاً على بعض المبادئ الأساسية التي يجب أن تكون في الدستور الجديد، كأن نتفق مثلاً على أن أغلبية الثلثين مطلوبة، أو أن يكون التمثيل نسبياً، في الواقع، أكّدنا أنه لن تكون هناك نقاط بداية أو توقف، بحيث يتم تمثيل أصغر حزب؛ ويمكننا أن نتفق على إنشاء محكمة دستورية تقرر فيما إذا كانت المبادئ قد تم الالتزام بها أم لا". هذا هو النهج الذي تحتاجه جنوب إفريقيا، لكن النظام لن يقبل بذلك، ما نجم عنه مذبحة. قال حزب المؤتمر الوطني الإفريقي: "ما لم تتوقف المجازر، لا يمكننا الاستمرار في المفاوضات". في نهاية المطاف، وبعد بضعة أشهر من المفاوضات الصعبة والسرية للغاية، قَبِل النظام بالآلية الأساسية على مرحلتين للمضي قدماً، وحصلت جنوب إفريقيا على الدستور المؤقت الذي أدى إلى انتخابات عام 1994، وأصبح مانديلا رئيساً، وبموجب ذلك حصلنا على دستور نهائي عام 1996.
ما حصل كان معجزة، وهذا لم يحصل خلال دقائق، بل أخذ سنوات تكشفت فيها الأمور، إضافةً إلى جداول الأعمال التي تم مناقشتها، وظهور التقارير واحداً تلو الآخر. لقد عملنا بجد وذكاء شديدين، وابتكرنا أساليب جديدة مكّنتنا من إحراز تقدم حتى وصلنا أخيراً إلى وثيقة إجماع مكّنتنا من تحقيق النجاح عبر مرحلتين، ثم قمنا بانتخاب البرلمان، الذي مُنح عامين لصياغة الدستور، مع ضرورة الامتثال للمبادئ الـ34 المتفق عليها مسبقاً. أذكر أنهم عملوا وسهروا كثيراً حتى وقت متأخر حتى وصلوا إلى بعد ظهر اليوم الأخير من السنة الثانية، ولحسن الحظ، كان عام 1996 سنة كبيسة لذلك كان لديهم يوماً إضافياً!
تم إرسال نسخة عن الدستور إلى المحكمة الدستورية، وهذا أدى إلى استياء رفاقي السابقين ممن كانوا يخوضون المفاوضات أو ممن كانوا يقاتلون في الخنادق، وأعلنوا أن عدم دستورية الدستور، لكن أخيراً تم الامتثال له بأغلبية ساحقة، ولكن باستثناء تسعة نقاط. ومن الممكن أن الذين تابعوا مؤخراً أحداث جنوب إفريقيا قد لاحظوا قيامي مؤخراً بمراجعة للنقاط التسعة تلك، وكان أحدها يتعلق بسلطات النائب العام. كان المبدأ ذو الصلة والمتفق عليه مسبقاً ينص على أن النائب العام والمدقق العام، اللذين ينتميان إلى مجموعة تدعى مؤسسات حماية الديمقراطية في الدستور، يجب أن يتمتعان بالاستقلالية، وأن نص المشروع محمي بأغلبية 50%، ما يتوجب على البرلمان رفضه، لكن المحكمة قالت أن ذلك لا يشكل حماية كافية. ارتفعت الغالبية المطلوبة إلى الثلثين وربما لم تصل إلى تلك النسبة، إضافةً إلى أن التقرير الذي قدمته النائب العام (ثولي مادونسيلا) أدى إلى اعتذار الرئيس زوما، وبالتالي حدوث أزمة داخل حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، وإلى دعم شعبي كبير للجهاز القضائي المستقل الذي أصدر هذا التصريح، وربما هي لم تكن موجودة هناك، ولم يكن هناك تقرير على الإطلاق.
ستلاحظون أننا رفضنا التعددية رغم التقدم الذي تم تحقيقه، حتى عند استخدام اللغة التوافقية، كما كان يسمى المفهوم. لقد رفضنا قبول فكرة أن المجموعات المختلفة في مجتمعنا التي ساهم تاريخنا بظهورها، والتي يجمعنا معها علاقات متوترة، ينبغي تمثيلها على هذا النحو، فضلاً عن محاولة إيجاد اتفاق في البرلمان وعلى المستوى التنفيذي في الحكومة. لكننا قبلنا بالتعددية بمعنى الاعتراف الدستوري بتنوع أمتنا، وعبر شرعة الحقوق والحقوق اللغوية، وعبر التفويض، وقمنا بشكل مباشر وغير مباشر بتقديم احترام كبير للتعددية، وفي الوقت نفسه، فإننا نحاول توحيد جنوب إفريقيا التي كانت مجزأة تحت ظل نظام الفصل العنصري. إننا نريد دولة موحدة، وليس دولة وحدوية بالضرورة، بل دولة موحدة، دولة موحدة. وفي المقدمة أكدنا على أننا "متحدون في تنوعنا". تنتمي جنوب إفريقيا إلى كل من يعيش فيها، فالوحدة أساس تنوعنا، وهذا هو الموضوع الأساسي لمسعانا الدستوري.
لا يدمّر التنوع الوحدة، لكن الوحدة الحقيقية تعتمد على الاعتراف بالتنوع. إنها ليست وحدة مفروضة، بل إنها وحدة نشعر بها، ويتمتع بها ويحققها الأشخاص الذين تأثروا بها.
سأقدم لكم مثالين عن كيفية تطبيق مبدأ الوحدة هذا في الممارسة العملية لعمل المحكمة الدستورية، الأول كان مثيراً للجدل في العديد من البلدان، وبالتأكيد كان موجوداً هنا في كندا، وهو يشكّل المسألة المحيّرة للغاية في القانون العرفي والمساواة بين الجنسين، والعلاقة بينهما. لست متأكداً فيما إذا كان ذلك مشابها لـ"قضية لَفْليس ضد كندا" (ساندرا لَفْليس نيكولاس والانتهاك الذي كانت تمارسه كندا فيما يتعلق بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية).
شعر الناس أنه يتوجب علينا الاختيار، هل تؤيدون الاعتراف باستقلالية السكان الأصليين في عملية صنع القرار، وهي حالة ستتأخر فيها النساء كثيراً وبشكل سيء، أم أنكم تؤيدون المساواة بين الجنسين؟ كان عليكم أن تختاروا.
أدركنا وجود توترات، لكننا حاولنا إيجاد حل لها ليس عبر كبح أحد العناصر الديناميكية، لنسمح بفوز أحدها وخسارة الآخر. بدلاً من ذلك، سعينا إلى إيجاد آلية للتوافق الفعلي بين العنصرين بطريقة مبدئية عبر ثلاث قضايا مهمة عُرضت على المحكمة الدستورية.
الأولى كانت "قضية بهي" (قضية بهي أمام قاضي التحقيق) الرجل الذي مات، والذي كان يعيش مع امرأة في منزل صغير، وكان لديهما ابنتان. يأتي ابن عم الرجل ويقول: "سأبيع المنزل لدفع ثمن جنازته"، ما شكّل صدمةً. كان على بناته أن يغادرن المنزل لأنه لم يكن متزوجاً رسمياً. لم يكن للأم حقوق رسمية بموجب القانون التقليدي أو القانون العرفي أو بموجب القانون العام. جاءت القضية أمام المحكمة لدينا، المحاكم الأخرى كانت تقول: "هذا أمر تقليدي، فالدستور يُقر بالقانون العرفي، إضافةً إلى الحق في الارتباط بالآخرين للترويج للغة والثقافة والدين". ومن خلال وضع الحق في الثقافة مع الاعتراف بالقانون العرفي، كانت المحاكم تقول "الأمر سيء للغاية بالنسبة للأطفال، لكن هذا هو العرف". عندما جاء الأمر إلينا، قلنا إن مبدأ حق البكر في الإرث ينتهك قانون الحقوق، وإن الحجة القائلة بأن الأقرباء المقربون والأكبر سناً من الذكور هم من يَرِثون هو أمر غير عادل، بل وظالم، فهو ينتهك مبدأ المساواة في قانون الحقوق الخاصة. قال أحد زملائي، "لتنتقل الوراثة إلى أكبر طفل في هذه الحالة"، وإن كانت طفلةً، سترث البنات. لكن معظمنا شعر أن القضية صعبة للغاية بالنسبة للمحكمة نفسها لأن تصل إلى حل، فنحن لم نكن ضد القانون العرفي. يوجد الكثير من الإيجابيات في القانون العرفي ما يحقق التضامن الاجتماعي، وهو ما يحتاجه مجتمعنا بأكمله ... فنحن جميعاً بشر (أوبونتو). ثمة مبدأ فلسفي عميق في الثقافة الإفريقية وأعتقد أنه مصدر إعجاب الناس بـ"ديزموند توتو" و"أوليفر تامبو" و"نيلسون مانديلا": أنا شخص لأنك شخص، ولا يمكنني كإنسان أن أرفض الاعتراف بإنسانيتك. ليس فقط القانون العرفي الذي يحتاج لذلك، بل ونحتاج إليه جميعاً، العالم كله يحتاج لذلك. في كندا، كان قاضي المحكمة العليا تشارلز غونتييه يتحدث عن الأخوّة، وسأل: ماذا حدث للأخوّة. كيف يمكن استبعاد هذا العنصر من الشعور بالتضامن الإنساني، وهو الذي يقدم السياق للحرية والمساواة. إنه يمثّل قوةً كبيرةً في القانون العرفي الإفريقي، ويجب الإبقاء على إنسانيتنا (أوبونتو) والبناء عليها، وليس التخلص منها.
القضية التالية تتناول حقوق المرأة الإفريقية في الطلاق، فقد أشار "قانون الولادة الأصلي" لـ"زولوس" أن الزوج هو الذي يحتفظ بممتلكات الأسرة، وهو الذي يتمتع بالقوة الزوجية، وهو يتحكم بكل شيء. وإذا أرادت الزوجة الحصول على الطلاق، فهذا حظ عاثر لها، حيث يمكنها الحصول على الطلاق والعودة إلى منزل عائلتها لكن دون الحصول على أية ممتلكات. قلنا أن هذا غير دستوري، ولهذا عملنا على تطوير مفهوم القانون العرفي السائد، فالقانون العرفي قديم جداً ومرتبط بمجموعة من القواعد عبر العصور. والقانون العرفي هو مُلك للشعب، وهو يتطور مع تغير حياة الناس وتطور الأفكار، والنساء الإفريقيات يحققن مكاسب الآن، فهن مستقلات وقويات، ويتمتعن بالمواطنة، ويمارسنّ حقوقهن عبر التصويت، ويشاركن على قدم المساواة في الحياة العامة، ولهذا من غير المعقول إطلاقاً عدم إمكانية النظر إلى القانون العرفي باعتباره يتطور بطريقة حيّة للاستجابة للظروف المتغيرة ومواكبتها. تطالب حالياً النساء السود اللواتي يشكلن جزءاً من المجتمع الإفريقي بالمساواة في القانون العرفي الذي يؤثر على حياتهن كثيراً.
القضية الثالثة كانت قضية السيدة شيلوبانا التي اختارها مجتمع بالوي لتكون "هوسي"، ملكتهم أو رئيستهم. هكذا أرادتها العائلة المالكة، وهكذا أجمع عليها المجتمع، وفي مقدمتهم من كان يتولى المنصب آنذاك والذي كان مريضاً جداً. لكن قبل وفاته مباشرة، قال: "لا، لا، لا. لقد ارتكبت خطأً. المنصب لابني". لكن الدولة قامت بتعيينها والاعتراف بها. ذهب الابن إلى المحكمة، لكن القضاة قالوا، "لا يمكن اختيارك رئيساً أو ملكاً، فهذا حقك لأنك وُلِدت لتكون رئيساً أو ملكاً". كان هذا موقفهم، وقد وافقت محكمة الاستئناف العليا. عندما جاءت القضية إلينا، كانت المحكمة ممتلئةً. نزلت النساء من الحافلات، فقامت نساء إحدى الحافلات بالدخول إلى المحكمة، وجلسن من الساعة 10:00 إلى 11:15، ثم خرجن، ثم جاء نساء الحافلة الأخرى وجلسن من الساعة 11:30 إلى 1:00. استمرت القضية ساعات طويلة. كان الأمر مؤثراً للغاية بالنسبة لي. كان رائعاً أن نرى الناس يملؤون المحكمة. في النهاية، استند قرارنا إلى أن مبدأ القانون العرفي هو ظاهرة حية، وهو يتطور. حتى لو كان هناك موقف في السابق يمنع النساء من أن يكنّ قائدات، أو رئيسات في المجتمعات الإفريقية، ولهذا تغيّر القانون العرفي الآن. لم يكن هذا حال دولة تخبر المجتمع المحلي أنه "يجب أن تحققوا المساواة بين الجنسين"، بل كان المجتمع نفسه يريد ذلك وكان القضاة في المحاكم الدنيا يقولون، "لا يمكنكم الحصول على ما تريدون" بسبب هذه المادة غير المرنة من القانون العرفي". إن الفكرة الرئيسية للقانون العرفي الحي منتجة للغاية، وهي غنية جداً، وتُمكّنك من احترام الجوانب الديمقراطية في القانون العرفي. ثمة ملايين من الأشخاص ممن يتسمون بالواقعية أكثر من اهتمامهم بوثيقة الزواج التي قد تحصل عليها من مسؤول حكومي، فالأمر بالنسبة لهم يرجع إلى تاريخ قديم في مجتمعهم وثقافتهم وعاداتهم وعلاقاتهم بين العائلات، لكن في الوقت نفسه، فالقضية ليست ثابتة، فهي تتغير مع القيم الجديدة لمجتمع جديد.
الحالة الثانية التي سأذكرها أصبحت معروفة دولياً، إنها "قضية فوري"، التي تتعامل مع زواج المثليين، إنني أذكر ذلك لأنه إذا تعاطت أي حالة مع حقك في أن تكون مختلفاً، بشكل صريح وقوي، فسنصبح أمام حالة الحقوق نفسها. تحولت قضية الحقوق لأن تأخذ منحنى مختلف. ليس فقط فيما يتعلق بالتسامح، بل بالتوجه المختلف، الأمر الذي يجب أن تنظر إليه بواقعية وحزم، فالتسامح هنا يعني "حسناً، يمكنك إقامة علاقاتك على انفراد". كان الحق الذي طالب به الزوجين المثليين يتمثل بحقهما في التعبير عن حبهما والتزامهما أو ارتباطهما على قدم المساواة مع الحصول على الكرامة المتساوية. إن السبب الذي دفعني لذكر هذا اليوم جاء نتيجةً لما وجدته ضرورياً للنطق به في الحكم، الذي قرأته للمحكمة حول العلاقة بين المقدس والعلماني. أدليت ببيان أخذته من أحد زملائي المتديّنين كثيراً - إذا كنت تستطيع أن تكون علمانياً بعمق، فأنا علماني بعمق - حيث قال: "لا تطلقوا على المعارضين لزواج المثليين بأنهم متعصبون، لأن هذه هي نظرتهم للعالم، وهذا هو اعتقادهم، لكن لا تسمحوا لهم بفرض معتقداتهم على الأشخاص الذين يرون الحياة بشكل مختلف، فهذا لا يمكن أن يكون أساس الحقوق المدنية لبقية المجتمع".
لقد تحدثت عن التعايش بين المتديّنين والعلمانيين، وأعتقد أن هذا يشكل قوة أكثر من رسم خط ثقافي يعلن أننا مستنيرون في حين هم الأضعف، إننا سنواصل من تعزيز خط التقدم والتنوير لتحقيق المزيد من التقدم.
وقد لاقت تلك النتيجة درجة غير عادية من القبول من المجتمعات الدينية في جنوب إفريقيا، حيث لم يتم تخريب معتقداتهم، بل على العكس من ذلك، قيل لهم إنه في مجتمعاتكم، وداخل مجتمعاتكم الدينية، لستم مضطرين للاحتفال بالزواج الذي يتعارض مع معتقداتكم. حتى أن الحكم في القضية السالفة ذكر شيئاً يتعلق بالمناقشات التي تجري الآن في الولايات المتحدة، وهو أن البرلمان، عند إصدار التشريع اللازم، يمكنه أن يقرر أنه لا يجوز إجبار القضاة المسؤولين عن الزواج بإتمام مراسم زواج المثليين عندما يكون لديهم أسباب أخلاقية حقيقية تمنعهم من أداء تلك الزيجات، وبالتالي، ما دفعني للكتابة هو تجنب جزء من الاهتمام الدستوري في النقاش برمته نظراً لأنه يتعلق بالقضاة المكلفين بعقد الزواج وضرورة احترام ضميرهم، وبالتالي ليس احترام الأزواج المثليين الذين أرادوا التعبير عن حبهم والتزامهم بطريقة عامة، وهذا بحد ذاته يحوّل المعركة إلى مكان غير ضروري وغير مريح للغاية. لم يكن الأمر كذلك فقط، فقد كانت فكرة الزواج من شخص ما يكره الحفل أمراً يجب أخذه بعين الاعتبار. لكن المعتقدات تبقى معتقدات، وما يهم هو ما هو ماثل في رأسك. صحيح أن الناس لا يستطيعون سن قوانينهم الخاصة، ولا يمكنهم وضع استثناءات تتعلق بمعتقداتهم إذا كان القانون لا يستهدفهم بشكل خاص ولكن يؤثر عليهم عموماً. في الوقت نفسه، أعلنا أن الدولة ملزمة ببذل كل ما في وسعها لتجنب إخضاع الناس لخيار صعب بين ضمائرهم من جهة وبين القانون من جهة أخرى. وهذا شكل من أشكال التسوية المعقولة، حيث أن الثقافة القانونية التي نشأنا عليها لا تتوافق مع التسوية المعقولة، فهي تتبنى التصنيفات الواضحة، لكننا بحاجة إلى إزالة عنصر التجريم، والوصول إلى تسوية معقولة، وبذل المزيد من عوامل التخفيف التي تساهم بتسهيل عملنا، فضلاً عن القيام بتحركات تنسجم مع الحياة العادية، لذا كان من الضروري أن تسير التسوية المعقولة والتعددية الثقافية والدينية على نحو جيد.
هيوستن، أعاني من مشكلة، فأنا أوشك على الانتهاء من تقديم كلمتي هذه، وأريد إنهاءها عبر تقديم عرض تقديمي. لذا اسمحوا لي بأن أخبركم بالمشكلة التي واجهتني، وبالثقافة التي خضتها للوصول إلى حل لهذه المشكلة. لقد أرسلت رسالة بالبريد الإلكتروني إلى زوجتي الليلة الماضية، قائلاً لها: "حبيبتي، أنت تعرفين أنني أحد الجمهوريين المخلصين، وأنا لا أحب الألقاب. عندما يتعلق الأمر بالمحكمة الدستورية التي تم إنشاؤها، قررنا أننا لا نريد أن يُطلق علينا تسمية "سيدي" أو "سيدتي"، ولا حتى إنهاء أسماءنا بـ"المحترم"، لذا سيكون من الصعوبة بالنسبة لي استخدام الصيغة المناسبة لمخاطبة شخص أريد تسليمه أثمن ما نمتلك في جنوب إفريقيا، فهو ليس ذهباً، وليس ماساً، ولا حتى من البلاتين، إنه شرعة الحقوق الخاصة بنا". ربما، بإمكان كالينا أن تقف وتقوم بإظهار ذلك على الناس، لا تقومي بتقديمها الآن. إننا فخورون جداً بهذه الشرعة. شكراً جزيلاً.
وجدت أنه من المثير للاهتمام معرفة كيف تطورت سلسلة أفكاري من وقت الإفطار إلى ما يقرب من ساعة من الآن حول كيفية الوصول إلى حل للمشكلة التي خلقتها بنفسي، فالخطوة الأولى تبدأ بالقول، "حسناً، هيا يا ألبي، كما تعلمون، إنه بروتوكول، وهو سلوك جيد، قم بذلك". لكنني أمضيت معظم حياتي وأنا أقاتل ضد البروتوكول. كان بإمكاني القيام بذلك، لكن لو تم ذلك لتم على نحو غير جيد. الخطوة التالية هي، "حسناً، أنا في منزله. أنا في بيته، المكان الذي سُمي باسمه، ويتوجب عليّ أن أكون ضيفاً كريماً يحترم لقبه". شعرت في الواقع أنه لا يمكنك تقديم شيء ما لمجرد أن تكون كريماً، فأنت تقدم شيئاً، لا يتوجب عليك تقديمه، وإذا كنت ستقدمه، فيجب أن يأتي من القلب.
ثم تأتي الأمور لتتكشف جلياً عبر القول: "طبعاً وبكل تأكيد، أنا لا أقدم هذه الوثيقة لشخص محدد، إنني أقدمها لرئيس مجتمع غير عادي يمتاز بتاريخ طويل جداً، وعبر هذا الشخص، فإنني على اتصال مع المجتمع ومع ممارساته، وهذا شيء جميل جداً، وهو أمر على غاية من الجمال. بهذا المعنى فأنا أحقق تقدماً، وأتجاوز حدود تحفظي تجاه المساواة، ليس لأنني مجبر على ذلك، أو لأنني مؤدب أو كريم، بل إنني أعتقد أنه أمر جميل حقاً أن أغيّر من وجهة نظري العالمية المقيّدة، التي سأدافع عنها، إذا أجبرت على ثني ركبتيّ لإظهار الاحترام. سأقاتل لأجل ذلك، لكنني سأفعل ذلك طواعيةً ولأنني استمتعت للتو بهذه التجربة الكاملة عبر وجودي هنا وقراءة الكتاب والاستماع إلى ما يقوم به المركز. "ما سأقوم به الآن – من فضلكم ابقوا جالسين، لا تقفوا.
الآن، سأطلب منكم التوقف عن التصفيق، من فضلكم، لأنني أريد أن أقول شيئاً وبكل سرور. "سمو (الآغا خان)، أتمنى منك قبول أغلى هدية من جنوب إفريقيا لكم ولكل العالم. شكراً لك سمو (الآغا خان)".