كلمة ألقاها السيدة أمينة ج. محمد, لشبونة، البرتغال · 11 يونيو 2019 · 18 دقائق
سمو الآغا خان،
أصحاب السعادة،
رئيس المجلس
سيداتي وسادتي،
والأصدقاء الذين يجلسون بين الحضور في هذا المساء،
إنه لمن دواعي سروري، وشرف عظيم لي أن أكون معكم هنا للحديث عن التعددية ومكانتها الأساسية في عمل الأمم المتحدة، ولا سيّما في خطة التنمية المستدامة لعام 2030. من الرائع أيضاً أن أكون في هذا المركز، وهو مبنى جميل حقاً يمتاز بحدائقه وساحاته ومؤسساته البحثية التي تساعدنا على سد الهوة بين الإسلام والثقافات الغربية. أوجه الشكر للقائمين على عمل المركز العالمي للتعددية، وأنتم تعلمون أن هذا الحدث مليء بالاختصارات، لذا قبل تقديم محاضرتي أود أن أشكر مرةً ثانية المركز العالمي للتعددية والإمامة الإسماعيلية على إتاحة هذه الفرصة، وعلى كل العمل الرائع الذي تقومون به للترويج للتعددية والتنوع والشمول، والسعي نحو عالم أفضل أكثر سلاماً بالنسبة لنا جميعاً.
إن التوتر بين الوحدة والتعددية، بين الكل والأجزاء المكونة له، قد تم مناقشته من قبل المفكرين والفلاسفة منذ آلاف السنين.
منذ ألفي عام، دعا الإمبراطور الهندي أشوكا الكبير إلى علاقات متناغمة بين الناس من جميع الأديان، وإلى الاحترام المتبادل لكتبهم المقدسة بين بعضهم البعض.
تتواجد في الأمم المتحدة سجادة رائعة، وهي هدية من الشعب الإيراني، منقوش عليها قصيدة تعرف باسم "بني آدم"، للشاعر الفارسي الكبير سعدي الشيرازي، حيث يقول في جزء منها:
إذا أنت للناس لا تتألم
فكيف تَسَمّيت بالآدمي
خلال اجتماع العام الماضي، قالت الباحثة الدينية كارين أرمسترونغ إن أول ما جذبها للإسلام هو التعددية وحقيقة أن القرآن الكريم لم يمدح جميع أنبياء الديانات الإبراهيمية العظيمة فحسب، بل قبلهم كأنبياء في دين الإسلام. في الواقع، تعد التعددية واحترام الاختلاف والأخلاقيات الإنسانية المشتركة هي سمات العديد من ثقافاتنا وأدياننا المختلفة.
تضم قارة إفريقيا التي أنتمي إليها بعض المجتمعات الأكثر تعددية في العالم، مع تنوع المجموعات القبلية والإثنية والثقافية والدينية، والتقاليد المختلفة، والأشخاص الذين يتوزّعون على طول المناطق الحضرية والريفية.
تشكّل التعددية الحمض النووي للأمم المتحدة، حيث يقول الميثاق، الذي يعتبر الوثيقة التأسيسية، على لساننا باعتبارنا "نحن شعوب" الأمم المتحدة: "مصممون على ممارسة التسامح، والعيش معاً في سلام كجيران صالحين مع بعضنا البعض".
لن أضيف شيئاً اليوم إلى النقاش الفلسفي حول التعددية، فأنا أعتقد أن النقاش قد تناول أفكار كثيرة وتفاصيل متنوعة إلى حد كبير، وقد حقق نجاحاً بذلك، رغم ضرورة أن نبقى دائماً متيقظين.
لكن ورغم أن التوافق على الأفكار النظرية قد انتهى، إلا أنه لا يزال أمامنا طريق طويل قبل أن نقول إن عالمنا يفي بهذا الوعد. نواجه في بعض الحالات عقبات تاريخية وثقافية أو نقص في المعرفة أو سوء في الفهم، وفي حالات أخرى، نكون أمام مسألة إرادة سياسية، وربما أقول اليوم إنها تشكّل الفجوة بين الأجيال.
ما أود التحدث عنه اليوم يتمثل في الفجوة بين الكلمات والأفعال؛ بين المثل العليا للتعددية والسياسات والاستراتيجيات التي ستمكّننا من جني ثمارها في حياتنا اليومية.
أود أن أقوم بربط التعددية بعمل الأمم المتحدة على أرض الواقع في جميع أنحاء العالم، أتحدث عن تعزيز حقوق الإنسان، وإدماج واحترام التنوع؛ وهي الطريق الوحيد، التي أعتقد أنه لا يمكننا فيها أن نتخلى أو أن نتجاهل أي أحد خلفنا، بل علينا أن نتصدى بفعالية للتحديات العالمية التي تواجهها، ونسعى نحو تحقيق المزيد من السلام والازدهار للجميع.
أصحاب السعادة، سيداتي وسادتي، أيها الأصدقاء،
في إطار عمل الأمم المتحدة، وجدول أعمالنا العالمي الحالي - أهداف التنمية المستدامة - قمنا بتضمين مبدأ الإدماج، وهي كلمة مرادفة إلى حد كبير للتعددية، وهي تعتبر في الواقع أحد الأهداف الـ17 المخصصة لبناء مجتمعات مسالمة وشاملة. أود أن أقول إن الإثنين ليسا منفصلين، لكن المجتمعات أكثر سلمية لأنها شاملة للجميع. لدينا أدلة متزايدة على أن تنوعاً وإدماجاً أكبر، خصوصاً فيما يتعلق بإدماج النساء، يرتبط بزيادة الناتج المحلي الإجمالي، وباستجابة الحكومات الأكبر، وبتحقيق أفضل النتائج، وبالسعي نحو استقرار أكبر، وبتحقيق سلام وتنمية أكثر استدامة. ولكن، إذا كانت الحالة التجارية للإدراج واضحة، فمن المؤكد اليوم أن نقول إن أعمالنا تفشل في إظهار ذلك.
رغم أن العديد من القادة قد يدفعون لتحقيق الإدماج، فإن الحقيقة هي أننا نعيش كعقبات للإقصاء. يعتبر التعصب والاستبعاد والميل إلى الهيمنة وعدم احترام الاختلاف أمور متجذّرة بعمق في العديد من سياساتنا وأنظمتنا السياسية والإقتصادية والإجتماعية.
لقد أنشأنا عالماً، سيتّصف عام 2030 وفقاً للتحليل الأخير، بأن نسبة واحد بالمئة من الناس الأكثر ثراءً سيسيطرون على ثلثي ثروة الكوكب، فالسلطة الإقتصادية تتركز غالباً وفي كثير من الأحيان في أيدي القلة. إن حقوق النساء والفتيات والأقليات والأشخاص المهمشين من جميع الفئات، يتم تجاهلها بشكل روتيني. وفي كثير من الحالات، يتمسك أولئك الموجودين في السلطة بأية وسيلة تمكّنهم من الاستمرار بالحكم لفترة أطول، وغالباً ما أؤمن أنهم يخشون من أن يتم استبعادهم.
وصلت عدم المساواة إلى مستويات غير عادية وهي تنمو داخل الدول وفيما بينها أيضاً. وبعد عقد من الانحسار، بدأ عدد الأشخاص الجياع في عالمنا بالارتفاع مجدداً في الآونة الأخير وعلى نحو مزمن، رغم وفرة الغذاء للجميع.
لقد أنشأنا عالماً نعرّف فيه الأمن على أنه فرض الحدود، واستبعاد الآخرين، وجمع الأسلحة. إننا نرى هذا في الإنفاق العسكري العالمي الذي قدر بنحو 1.8 تريليون دولار في العام الماضي فقط، وهو جزء صغير من شأنه أن يوفر كرامة وفرصة لأكثر الفئات ضعفاً.
لقد أنشأنا عالماً تتزايد فيه القومية العرقية والتعصب والتمييز والعنف الذي يستهدف النساء، وهنّ أمهاتنا وأخواتنا وجداتنا، ويستهدف الأقليات والمهاجرين واللاجئين وأي شخص يُنظر إليه على أنه مختلف أو "الآخر". بات الفضاء المدني يتقلص؛ والحقوق الأساسية تتعرض للهجوم؛ وبتنا ننظر للقرارات التي اتخذناها في كثير من الأحيان على أنها أمراً مفروغاً منه؛ فضلاً عن استهداف الناشطين والصحفيين؛ وانتشار حملات التضليل وخطاب الكراهية كالنار في الهشيم على وسائل التواصل الإجتماعي.
ينتقل خطاب الكراهية إلى التيار الرئيسي في العديد من البلدان والمناطق، وإلى الأنظمة الديمقراطية الليبرالية والدول الاستبدادية على حد سواء. يتم تقويض الدساتير التي تقوم على التعددية واحترام الاختلاف، ويتم مهاجمة المجموعات والأقليات المختلفة.
يتم تنظيم الوصول إلى المعلومات بشكل فردي، حتى نعيش حياة ذرية في حجرات يردد بها الصدى صوتنا (في كناية عن وحدتنا وتعلقنا بمسار واحد للأمور)، حيث تساهم الأخبار والإعلانات بعكس وتعزيز وجهة نظرنا المفترضة تجاه العالم. ما لم نختار بأنفسنا أن نبحث عن الآخرين، فقد لا نتمكن من التعرف على وجهات النظر والحجج البديلة التي تشكل تحدياً لمعتقداتنا.
تعد الاعتداءات على أماكن العبادة من أكثر الأمثلة فظاعة على عدم احترام بعضنا البعض واحترام إنسانيتنا المشتركة، وتلك الأمور هي في تفاقم. في الأشهر القليلة الماضية وحدها، شهدنا هجمات مروعة في المساجد في نيوزيلندا، وفي الكنائس في سريلانكا والمعابد اليهودية في الولايات المتحدة.
وثمة أعداد قياسية من الناس يهاجرون من أماكن كثيرة في جميع أنحاء العالم هرباً من الصراعات والجفاف والفقر وقلة الفرص، وفي الوقت نفسه، يتعرض اللاجئون والمهاجرون للهجوم الجسدي والخطابي على حدٍ سواء، من خلال بث روايات كاذبة تربطهم بالإرهاب وتجعلهم كبش فداء للعديد من علل المجتمع.
تعاني ملايين من النساء والفتيات من انعدام الأمن وانتهاك حقوقهن الإنسانية يومياً، حيث يُستخدم العنف لفرض النظام الأبوي وعدم المساواة بين الجنسين وضبط دور المرأة في مجتمعنا. إذا استثنيا نصف عدد سكاننا، فإن ذلك لا يؤثر فقط على أمهاتنا وبناتنا وأخواتنا، بل إنه يؤثر على كل واحد منا ويشوه مجتمعاتنا وأنظمتنا الإقتصادية.
لقد أنشأنا اقتصادات تقدر في بعض الأحيان الأنشطة المشكوك فيها أو حتى المدمرة، لكننا لا نعير انتباهاً ولا نعطي أي قيمة لما يحدث يومياً في منازلنا، حيث يعاد إنتاج نسخ عن مجتمعنا.
إننا لا نعطي في مجتمعاتنا أهمية كبيرة لقيمة بيئتنا الطبيعية ومنازلنا، وإن الأشجار والغابات تستحق منّا العناية أكثر من اهتمامنا بمواد البناء التي يمكن أخذها منها، فإزالة الغابات والصيد الجائر وتغير المناخ والتلوث يسببون أضرار غير مسبوقة لشبكة الأمان الطبيعية الخاصة بنا، والتي يتم تجاهلها نتيجة للحوافز الاقتصادية، ولهذا، فإننا نواجه الآن أزمة وجودية كبشر، وإننا مسؤولون مباشرةً عن التهديد الذي يواجه مليون نوع آخر قد يتم دفعهم للانقراض في السنوات القليلة المقبلة.
تسبب أزمة المناخ بنشر الفوضى في بعض البلدان والمناطق الأكثر ضعفاً، في حين تواصل بلدان أخرى حرق الوقود الأحفوري وتزيد من الاحتباس الحراري. لا أحد يقوم بإشعال سيجارة في غرفة يعاني فيها أحد الأطفال من مشاكل في التنفس، لكن الدول المتقدمة تساهم في خلق ظروف تسبب الجفاف والفيضانات التي تشكل خطورة في أماكن أخرى حول العالم، مع تجاهل تام لحقوق الآخرين. لقد فقدنا إنسانيتنا المشتركة وترابطنا مع بعضنا البعض على هذا الكوكب الذي يعطينا الحياة.
أود التأكيد أن تلك القضايا لم تكن مجرد حوادث، فهي نتيجة حتمية للأنظمة الذكورية - وسأؤكد هنا على أنها ذكورية لأنه لو كان لدينا نساء في موقع المسؤولية، فلن نكون على الأرجح في نفس هذا القدر من الفوضى – التي قامت على أساس الإستبعاد والتهميش والتمييز وإعطاء الأولوية للأرباح قصيرة الأجل لعدد قليل من الأشخاص على حساب الحقوق والمصالح طويلة الأجل لكافة الأجيال المقبلة.
من الواضح أننا نحتاج إلى إعادة ترتيب أولوياتنا من أساسها، وإعادة تنظيم أنظمتنا الإقتصادية والسياسية والإجتماعية، إذا أردنا فعلاً أن نجني ثمار الإدماج وأن ننقذ أنفسنا وكوكبنا من التدهور ومن مزيد من الممارسات اللاإنسانية.
أصحاب السعادة، الأصدقاء، سيداتي وسادتي،
إننا نعيش أوقاتاً عصيبةً، ونواجه العديد من الرياح المعاكسة، ونسمع أخباراً سيئةً، ورغم ذلك ثمة الكثير من الأدلة على أن الجهود العالمية قد نجحت، وأنه يمكن منع حدوث المزيد من الأضرار التي لحقت بالمجتمعات وبكوكبنا وبالتالي عكسها. بعد كل شيء، كما قلت قبل قليل، كانت ولا زالت تلك المشاكل من صنع الإنسان.
كما جادل ستيفن بينكر، فإن عالمنا يتحسن، لكن ليس بالسرعة التي نأملها. لذا، فإن الكثير من الأدلة التي نراها من أجل تحقيق تقدم لا تواكب حقيقة التحديات التي نواجهها، وهي في كثير من الحالات لا تزال ثابتة. انخفض مستوى العنف بشكل مطرد مع مرور الوقت وارتفع معدل الأعمار المتوقع، والفقر المدقع آخذ في الانخفاض، وبرامج محو الأمية في مستويات عالية تاريخياً. ثمة وعي أكبر بحقوق الإنسان، على الأقل في بعض البلدان، فضلاً عن تمتع الأقليات من جميع الأنواع بحماية قانونية أكبر من أي وقت مضى.
لنأخذ بروتوكول مونتريال فيما يتعلق بطبقة الأوزون، حيث دخلت هذه المعاهدة الدولية حيز التنفيذ عام 1989، بعد أن اكتشف علماء المناخ ثقباً في طبقة الأوزون فوق القارة القطبية الجنوبية. ومنذ ذلك الحين، بدأت الثغرة تتعافى تدريجياً وتشير التوقعات إلى أن طبقة الأوزون ستعود إلى مستويات 1980 بين عامي 2050 و2070، وهذا يشير إلى تعاون عالمي.
الأهداف الإنمائية للألفية، وكما ذكرني سمو الآغا خان، لم أكن مسرورةً جداً بهذه الأهداف، لكنني في النهاية، اعتنقتها كخط أساس وليس كسقف لطموحاتنا التي أردنا الوصول إليها، وقد وافقت عليها جميع البلدان عام 2000. لقد أُنشأت واحدة من أنجح الحركات المناهضة للفقر في التاريخ؛ على الأقل استفدنا في بلدي من ادخار مليار دولار في السنة واستثمرناها في حياة الناس. انتُشل أكثر من مليار شخص من براثن الفقر المدقع، وتحقق تقدم كبير ضد الجوع، وتمكنت المزيد من الفتيات من الذهاب إلى المدرسة أكثر من أي وقت مضى، فضلاً عن حماية كوكبنا. ساهمت الأهداف الإنمائية للألفية بتوليد شراكات جديدة وحفزت الرأي العام، وأعادت تشكيل عملية صنع القرار في البلدان المتقدمة والنامية على حد سواء.
حققت التعددية العالمية، في أنموذج تعددية الأطراف، هذه الأشياء، وإنني أعتقد أنه بإمكانها أن تحقق أكثر من ذلك بكثير.
منذ تأسيس الأمم المتحدة، كان ثمة اعتراف واسع ومتزايد بأن التحديات الرئيسية لا يمكن حلها عن طريق البلدان التي تعمل بمفردها. في الوقت الذي نواجه فيه عدداً متزايداً من القضايا التي لا تحترم الحدود الوطنية، بدءاً من تغير المناخ وصولاً إلى انتشار الصراع وتفشي الأمراض، فإننا بحاجة إلى مؤسسات إقليمية وعالمية أكثر مما فعلنا من قبل، وأعتقد أن هذا من شأنه تعزيز استجابتنا الجماعية.
ورغم ذلك فإن تعددية الأطراف قد تكون ضحية لنجاحها. لقد توقفنا عن النظر إليها كأولوية وعلى أنها تشكّل تحدياً متطوراً يحتاج منّا أن نقوم بمراقبته وتعزيزه وتنشيطه. لقد بدأنا بأخذ الأمر على أن تعددية الأطراف أمر بديهي، مفروغ منه. إننا نرى هذا في المجتمعات والمجموعات التي تتحول إلى الداخل، متناسين دروس الماضي. يجب أن تحتفظ المؤسسات العالمية بخط القيم العالمية، وللقيام بذلك في هذه المؤسسات، إضافةً إلى شركائنا، فإننا بحاجة إلى التحول الذي يتناسب، كما أقول، مع أهداف القرن الحادي والعشرين.
تحدث قداسة البابا عن عولمة اللامبالاة، وإنني أعتقد أنه يتوجب علينا استبدال ذلك بعولمة التضامن.
قبل أربع سنوات وتحديداً عام 2015، عندما وصلنا إلى الموعد النهائي للأهداف الإنمائية للألفية، بدأت الأمم المتحدة بتنسيق إجراء مداولات عالمية حول أولوياتنا، وقد اتفقت جميع البلدان على أننا بحاجة إلى القيام بعمل أفضل.
وقد نتج عن ذلك اتفاق من جانب جميع بلدان الأمم المتحدة البالغ عددها 193 دولة على خطة التنمية لعام 2030، خريطة طريقنا التحويلية للناس والكوكب وتحقيق الازدهار والسلام والشراكات على مدى السنوات الـ15 المقبلة، وقد مضى على ذلك أربع سنوات.
تعكس هذه الأجندة المشتركة نقلة نوعية مهمة، لأن أهداف التنمية المستدامة محورها الإنسان، وهي مترابطة. والأهم من ذلك أنها عالمية ومتكاملة وشاملة ومتعاضدة. لا يوجد هدف يقف وحده؛ بل كل الأهداف مترابطة ارتباطاً وثيقاً ببعضها البعض لتحقيق الهدف النهائي. ورغم أنني بنفسي قدمت أولوية للهدف الخامس وجعلته نقطة انطلاق للأهداف الـ16 الأخرى، لأنه يشكّل أهمية كبيرة لإنسانيتنا.
إنه يعكس حقيقة تحديات التنمية على أرض الواقع، حيث من المرجح أن يعاني الأشخاص الذين يعيشون في فقر وجوع من ضعف في فرص الحصول على مساكن جيدة، تعليم، رعاية صحية، مياه وصرف صحي. ومن غير المرجح أن تذهب الفتاة إلى المدرسة، على سبيل المثال، إذا كان والداها غير قادرين على دفع تكاليف اللوازم المدرسية، أو إذا لم يكن لديها سكن آمن.
تعالج خطة عام 2030 هذه القضايا معاً، وتتناول الأسباب الجذرية بطريقة أكثر شمولية. لقد قامت جميع البلدان بإعداد أهداف التنمية المستدامة، الأمر الذي يتطلب مساهمات من الجميع، بما في ذلك البلدان المتقدمة والنامية، وإننا سنعمل على تحسين حياة الجميع، حتى لا يتخلف أحد عن الركب في النهاية.
إن التركيز في خطة عام 2030 على الإدماج والاعتماد المتبادل، إضافةً إلى الالتزام الأخلاقي تجاه أضعف أعضاء مجتمعنا عبر مبدأ "عدم ترك أي شخص وراءنا" يوفر ثقلاً موازياً للقوى التي تؤدي إلى زيادة الاستقطاب والقبلية والتفتت الإجتماعي. إنها محاولة واعية لبناء وتجديد البنية التحتية الديمقراطية في العالم، وتقوية علاقتنا والعقد الاجتماعي والالتزام تجاه بعضنا البعض.
يتمثل الطموح النهائي لخطة عام 2030 في الوصول إلى عالم يوفر الكرامة للجميع، ويحقق الرفاهية والفرص، وهي صفات لا تخضع لمقياس الناتج المحلي الإجمالي الذي لدينا، ولكن يتم الاعتراف بها أخيراً كتدابير حاسمة للحكم الناجح. يتوجب في جميع أنحاء العالم تخصيص ميزانيات تهتم بنوعية الحياة، فضلاً عن الاهتمام بالاعتبارات المتعلق بالرفاهية بوصفها إحدى الأدلة المشجّعة على الاهتمام بعائلتنا البشرية.
سوف تتطلب خطة عام 2030 إجراء تحولات في العقليات، لتجاوز الناتج المحلي الإجمالي وصولاً إلى الطريقة التي نقيس بها رفاهيتنا، وهذا الأمر يتطلب إعادة النظر في تآكل الأنظمة الاقتصادية، للوصول إلى الأهداف الرامية إلى تحسين الحياة وجعلها أكثر جدوى. يتمثل الشرط الرئيسي في الإرادة السياسية لقيادة جهود دفع إجراء التغييرات في حوكمة اقتصاداتنا وأنظمتنا التجارية لجعلها أكثر شمولاً وعدلاً.
وفي الوقت الذي تبدو فيه أهداف التنمية المستدامة عالمية، إلا أنها تعكس أيضاً القيم العالمية والمؤسساتية والتقاليد الثقافية والمجتمعية المحلية. على سبيل المثال، يمكننا أن نرى قيم العقيدة الإسلامية، ديني الخاص، تنعكس في العديد من الأهداف، التي تؤكد على العدالة البيئية والطبيعة وترابط الأشياء.
الأمم المتحدة بحد ذاتها تتغير لدعم البلدان كونها تتبنى هذا المشروع العالمي الطموح، باعتباره مناسباً لهذا الغرض. إننا نقوم بإصلاح نظام أنطونيو غوتيريش تحت قيادة نظام التنمية، وكذلك السلام والأمن حتى نكون في وضع أفضل لمساعدة الحكومات ومرافقتها حتى تحقيق الأهداف والغايات التحويلية السبعة عشر. بدءاً من توفير الوصول إلى الخبرة الفنية حتى التوصل إلى اتفاق عالمي بشأن الترتيبات المالية التي ستكون حاسمة لتحقيق النجاح ، فإن الأمم المتحدة هي في صميم تقديم المساعدات الرامية إلى تنفيذ أجندة 2030.
إننا نقوم بإصلاحات لضمان تحقيق تمثيل أكثر تنوعاً، والوصول إلى إستراتيجية جديدة للمساواة بين الجنسين لتوظيف واستبقاء الموظفات على جميع المستويات، ولا سيّما في القيادة، ليكون لدينا عدل فعلي في إدارتنا، إلى جانب بذل جهود أكبر لضمان تمثيل جغرافي أكثر إنصافاً، وهذا يعني أنه يجب أن يكون الأشخاص في العالم جزءاً من الأمم المتحدة، وأن يكونوا ممثلين بشكل نشط في القيادة على المستوى القطري. إننا على بعد أشهر فقط من تحقيق التكافؤ في قيادتنا العليا لأول مرة منذ سبعة عقود. سيكون في العام المقبل قد مضى 75 عاماً على تشكيل منظمة الأمم المتحدة، لذا فإننا بحاجة إلى القدوة وإظهار أهمية التنوع والشمول الذي يعكس حقيقة عالمنا.
أصحاب السعادة، سيداتي وسادتي، أيها الأصدقاء،
هذه هي الصورة الكبيرة. لكنها ستنجح فقط إذا أصبح كل فرد منا، فرادى وجماعات، جزءاً من هذا الجهد.
يجب أن يبدأ تحقيق أهداف التنمية المستدامة في كل مكان يتواصل فيه الناس: الأسرة، المجتمع، مكان العمل، المدارس، العيادات الطبية، الشركات الصغيرة، الإعلام والأوساط الأكاديمية.
وهنا سنحتاج إلى إجراء تحول جذري بغية تحقيق أجندة 2030، تحوّل في العقليات بعيداً عن التراكم الفكري من قِبل البعض واستبعاد الكثيرين، إلى نموذج قائم على الاعتماد المتبادل بين بعضنا البعض ومع بيئتنا، إضافةً إلى حاجتنا إلى إجراء تحول في حلول السياسات التي تستند إلى مكاسب متبادلة بدلاً من التفكير العقيم، ومن تعريف للأمن يستند إلى مخزون متزايد من الأسلحة وحدود أقوى، وصولاً إلى أمن قائم على المجتمعات التي تتسم بالمرونة والاحترام المتبادل، ولا سيّما فيما يتعلق بكوكبنا.
هذا التحول يجب أن يبدأ من أنظمتنا التعليمية، وكما ناقشنا خلال اليومين الماضيين، فإن التعليم يشكّل أحد المجالات التي تحتاج إلى مزيد من الاهتمام لما لها من أثر كبير في عالمنا اليوم. إننا سنستمر في بناء المدارس من الطوب والصُلب للوصول إلى تعلم عن ظهر قلب دون عناء من الكتب المدرسية التي عفا عليها الزمن. إننا نعد شبابنا لعالم مضى، بدلاً من استخدام التكنولوجيا، ومهارات التفكير النقدي، والرفاهية، وأخلاقيات المسؤولية المشتركة اللازمة لعالم اليوم والغد.
وفي حين تبدو خطة عام 2030 عالمية وشاملة، سيتطلب تنفيذها إجراءات على كافة المستويات، فهي بحاجة بشكل خاص إلى القيادة والتوجيه من المؤسسات الدينية والخيرية التي تمارس عملها على المستويات المحلية والوطنية والإقليمية، باعتبارها موجودة في العديد من المستويات الدولية، والتي بإمكانها إعادة غرس الشعور بإنسانيتنا المشتركة.
كتب الفيلسوف كوامي أنتوني أبيا عن عضوية "الأسرة والحي، وعدد وافر من مجموعات الهوية المتداخلة التي تتصاعد لتشمل البشرية جمعاء". هذا المفهوم يتطلب منا أن نقوم بالكثير من الأشياء، كما يقول، لأننا مجرد أشياء كثيرة.
إنني على دراية بهذه الأفكار، وتعتبر قصتي الشخصية واحدة من الهويات المتعددة، من نيجيريا إلى المملكة المتحدة، ومن هناك إلى هنا مجدداً، ومن القطاع الخاص إلى الحكومة والأمم المتحدة.
إنني أم إفريقية وجدة، وعلي أن أخبركم أن أطفالي، نيجيريون، بريطانيون وسوريون، وحفيدي برازيلي، وكنت أشغل منصب وزير سابق في الحكومة، الأمر الذي لم أتصوره، كنت أرغب دائماً في العودة إلى المنزل وتنفيذ أهداف التنمية المستدامة، لكن عند تسلّمي وزارة البيئة، التي يُنظر لها في بلدي على أنها منصب للتبذير وتسمى هناك بـ"سيدة المهملات"، لأن الأمر يتعلق فقط بالهدر، ولكن خلال 18 شهراً، أنتجت نيجيريا للقارة أول رابطة وطنية خضراء محلية، وقد سمعت الأسبوع الماضي أننا قمنا بتجديدها والاكتتاب فيها للمرة الثانية، وبالتالي أصبح المستحيل ممكناً. لذلك، باعتباري وزيرة سابقة في الحكومة، وإحدى الناجيات من العنف القائم على النوع الاجتماعي، ومسلمة مخلصة، وحفيدة أحد الوزراء المتديّنين، وبتسلمي ثاني أعلى منصب مدني دولي أقوم به وبتواضع في العالم. حصلت أيضاً على التعليم الأساسي، وأعتقد أن هذا أمر مهم لأننا في كثير من الأحيان لا ننظر إلى الوراء في التاريخ لنرى ما الذي خلق الشعور بعدم الأمان الذي نعيشه اليوم، والذي يتمثل في الصراع والإرهابيين. لكن تعليمي الأساسي كان في مايدوجوري، وهي بلدة تقع شمال شرقي نيجيريا حيث ينشط حالياً تنظيم بوكو حرام، الأمر الذي ساهم في تفاقم الفقر، إلى جانب ما أحدثه تغير المناخ.
أضم صوتي إلى الفيلسوف أنتوني أبيا بالمطالبة بالتعددية، إننا جميعاً نجسد العديد من الهويات المختلفة، رغم التقدم الذي وصل إليه اختبار الحمض النووي، إلا أنه يجمعنا الكثير من الروابط الإجتماعية والثقافية. لا توجد ثقافة متجانسة في عالمنا؛ وثمة القليل ممن يلتزمون بالصدق تجاه تاريخهم. ويسعدني أن أقول إن مضيفينا اليوم، البرتغال وكندا، من بين الأطراف الأكثر صدقاً، وإنني أهنئكم على هذا، لأن هذا هو نوع القيادة الذي نحتاجه اليوم بحق.
قدمت البرتغال مقراً للإمامة الإسماعيلية، فضلاً عن العديد من المساهمات المهمة للانفتاح والتنوع والتعددية في عالمنا. تتمتع البرتغال بتاريخ حافل بالاكتشافات والوصول والتواصل، ولها مكانة مركزية فيما يتعلق بالثقافة. كانت شبه الجزيرة الأيبيرية لعدة قرون ساحة معركة بين ديانتين من الديانات الرئيسية الثلاث في العالم، وقد ترك هذا ميراثاً من الترابط والاحترام العميق للاختلاف الثقافي.
لا أستطيع أن أتحدث بالطبع عن البرتغال دون الرجوع إلى أميننا العام وزميلي وصديقي أنطونيو غوتيريش، وهو مواطن برتغالي فخور، ويمكنني أن أخبركم بذلك، فهو يذكّرنا باستمرار بالميّزات الخاصة والفريدة التي تمتاز بها بلدكم، وأحياناً بما يعانيه فيما يتعلق بوجبات الطعام في الأمم المتحدة، فهو يرغب بالعودة إلى وطنه، ولكن هذا ليس كل شي بالنسبة له، بل يجب أن أخبركم أنني أحياناً كثيرة أتوق لتناول إحدى الوجبات النيجيرية في الأمم المتحدة.
كما أود أن أُشيد بكندا، التي تستضيف المركز العالمي للتعددية، كقائد تحترم التنوع، وتكرّم قيم التعددية في مؤسساتها، عبر نسيج ثقافتها بالكامل. تظهر الهوية الوطنية التعددية لكندا في مقاربتها من خلال الترحيب باللاجئين، وهذا يشكّل أساساً للعلاقة بين كندا وسمو الآغا خان وبالطبع مع المؤسسة. لا يوجد مجتمع مثالي. معظم الدول، إن لم يكن جميعها، صاغت حدودها من خلال الحرب أو الغزو، تاركةً مجموعة من المظالم التاريخية التي تشكّل تحدياً حقيقياً لهوياتنا. إن كيفية مواجهة تلك البلدان للتحديات هو ما يوضح قيمها.
تعد الجهود التي تبذلها كندا لمعالجة علاقتها مع شعوب الأمم الأولى الأصلية بروح من الأمانة والمصالحة، والصعوبة التي تواجهها أحياناً، مثالاً على هذه القيادة.
أخيراً، أود أن أعرب عن تقديري لشبكة الآغا خان للتنمية ومؤسساتها، لما قامت به من عمل يصبُّ في مصلحة بعض أفقر المجتمعات وأكثرها تهميشاً في العالم. أنتم تجمعون بين الأساس الأخلاقي القوي واحترام البيئة والالتزام بدعم المجتمعات التي يمكن لكل مواطن، بصرف النظر عن الاختلافات الثقافية أو الدينية أو العرقية، أن يحقق إمكاناته الكاملة، ما يدل حقاً على قوة التنوع.
إن النهج المتبع والرامي لتقديم الدعم لجميع أفراد المجتمع حتى يتمكنوا من تحقيق أهدافهم يعكس كلمات سمو الآغا خان، الذي قال ذات مرة إن التعددية ليست ببساطة رصيداً أو شرطاً مسبقاً للتنمية، ولكنها تشكّل ضرورة حيوية لوجودنا، وإنني أتفق مع ذلك وبكل بصدق. لقد كُنتَ صوتاً ثابتاً يهدف إلى تعزيز التعددية والإدماج واحترام التنوع على مدار عقود، وإننا بحاجة إليك الآن أكثر من أي وقت مضى، لذلك، إذا كنت تفكر في التقاعد، فإني أقولها: لا..!
إنني أشكرك حقاً على التزامك وأتطلع إلى العمل معك ومع مؤسستك ومع المركز العالمي للتعددية، وبالنسبة للكثير منكم فقد بدأنا بالفعل العمل مع بعض الشراكات القوية للغاية الموجودة هنا في هذه القاعة اليوم، وإننا نأمل أن نتمكن من توسيع تلك القاعدة لأنه لا يوجد وقت أفضل من الآن للمحاولة في تذليل ما يبدو مستحيلاً بشكل لا يصدق مع الرياح المعاكسة التي نواجهها. إننا بحاجة إلى مواجهة الحقائق بجرأة وشجاعة، إضافةً إلى حاجتنا لرؤية التطلعات وهي قابلة للتنفيذ لأننا نمتلك الوسائل. وأخيراً، علينا أن نتعاون معاً لسد تلك الفجوة، وعلينا أن نواصل إعطاء الأمل لأولئك الذين يشعرون حالياً باليأس، وهذا أمر ممكن، كما قال نيلسون مانديلا "يصبح الأمر ممكناً بعد أن تتناول نقاط الاستحالة، لأنك أنت من يجعله يحدث". وأعتقد أنه بإمكاننا جعل ذلك يحدث. شكراً جزيلاً لمنحي شرف التحدث إليكم اليوم.
شكراً لكم.